المقدمة – تفسير الأحلام لابن سيرين

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على أجل المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الكرام المنتخبين.

اعلم وفقك الله أن مما يحتاج إليه المبتدئ أن يعلم:

أن جميع ما يرى في المنام على قسمين: فقسم من الله تعالى وقسم من الشيطان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان). والمضاف إلى الله تعالى من ذلك هو الصالح وإن كان جميعه أي الصادقة وغيرها خلقا لله تعالى، وأن الصالح من ذلك هو الصادق الذي جاء بالبشارة والنذارة، وهو الذي قدره النبي صلى الله عليه وسلم جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وأن الكافرين وفساق المؤمنين قد يرون الرؤيا الصادقة، وأن المكروه من المنامات هو الذي يضاف إلى الشيطان الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتمانه والتفل عن يساره ووعد فاعل ذلك أنها لا تضره، وأن ذلك المكروه ما كان ترويعا أو تحزينا باطلا أو حلما يؤدي إلى الفتنة والخديعة والغيرة دون التحذير من الذنوب والتنبيه على الغفلات والزجر عن الاعمال المهلكات، إذ لا يليق ذلك بالشيطان الآمر بالفحشاء، وإنما إضافة أباطيل الأحلام إلى الشيطان على أنه هو الداعي إليها، وأن الله سبحانه هو الخالق لجميع ما يرى في المنام من خير أو شر، وأن الاحتلام الموجب للغسل مضاف إلى الشيطان وكذلك ما تراءى من حديث النفس وآمالها وتخاويفها وأحزانها مما لا حكمة فيه تدل على ما يؤول أمر رائيه إليه، وكذلك ما يغشى قلب النائم الممتلئ من الطعام أو الخالي منه كالذي يصيبه عن ذلك في اليقظة إذ لا دلالة منه ولا فائدة فيه وليس للطبع فيه صنع ولا للطعام فيه حكم ولا للشيطان مع ما يضاف إليه منه خلق وإنما ذلك خلق الله سبحانه قد أجرى العادة أن يخلق الرؤيا الصادقة عند حضور الملك الموكل بها فتضاف بذلك إليه وأن الله تعالى يخلق أباطيل الأحلام عند حضور الشيطان فتضاف بذلك إليه.

وأن الكاذب على منامه مفتر على الله عز وجل.

وأن الرائي لا ينبغي له أن يقص رؤياه إلا على عالم أو ناصح أو ذي رأي من أهله كما روى في بعض الخبر.

وأن العابر يستحب له عند سماع الرؤيا من رائيها وعند إمساكه عن تأويلها لكراهتها ولقصور معرفته عن معرفتها أن يقول خير لك وشر لأعدائك خير تؤتاه وشر تتوقاه هذا إذا ظن أن الرؤيا تخص الرائي وإن ظن أن الرؤيا للعالم قال خير لنا وشر لعدونا خير نؤتاه وشر نتوقاه والخير لنا والشر لعدونا.

وأن عبارة الرؤيا بالغدوات أحسن لحضور فهم عابرها وتذكار رائيها لأن الفهم أوجد ما يكون عند الغدوات من قبل افتراقه في همومه ومطالبه مع قول النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم بارك لأمتي في بكورها).

وأن العبارة قياس واعتبار وتشبيه وظن لا يعتبر بها ولا يختلف على عينها إلا أن يظهر في اليقظة صدقها أو يرى برهانها وأن التأويل بالمعنى أو باشتقاق الأسماء.

وأن العابر لا ينبغي له أن يستعين على عبارته بزاجر في اليقظة يزجره ولا يعول عند ذلك بسمعه ولا بحساب من حساب المنجمين يحسبه.

وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتمثل به في المنام شيطان وأن من رآه فقد رآه حقا.

وأن الميت في دار حق فما قاله في المنام فحق ما سلم من الفتنة والغرة وكذلك الطفل الذي لا يعرف الكذب وكذلك الدواب وسائر الحيوان الأعجم إذا تكلم فقوله حق وكلام ما لا يتكلم آية وأعجوبة.

وأن كل كذاب في اليقظة كالمنجم والكاهن فكذلك قوله في المنام كذب.

وأن الجنب والسكران ومن غفل من الجواري والغلمان قد تصدق رؤياهم في بعض الأحيان وأن تسلط الشيطان عليهم بالأحلام في سائر الزمان.

وأن الكذاب في أحاديث اليقظة قد يكذب عامة رؤياه.

وأن أصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا.

وأن العابر لا يضع يده من الرؤيا إلا على ما تعلقت أمثاله ببشارة أو نذارة أو تنبيه أو منفعة في الدنيا والآخرة ويطرح ما سوى ذلك لئلا يكون ضغثا أو حشوا مضافا إلى الشيطان.

وأن العابر يحتاج إلى اعتبار القرآن وأمثاله ومعانيه وواضحه كقوله تعالى في الحبل {واعتصموا بحبل الله جميعا} وقوله في صفات النساء {بيض مكنون} وقوله في المنافقين {كأنهم خشب مسندة} وقوله إن الملوك {إذا دخلوا قرية أفسدوها} وقوله {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} وقوله {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا}.

وأنه أيضا يحتاج إلى معرفة أمثال الأنبياء والحكماء وأنه يحتاج أيضا إلى اعتبار أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمثاله في التأويل كقوله (خمس فواسق وذكر الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور) وقوله في النساء (إياك والقوارير) وقوله (المرأة خلقت من ضلع) ويحتاج العابر أيضا إلى الأمثال المبتذلة كقول إبراهيم عليه السلام لإسماعيل (غير أسكفة الباب) أي طلق زوجتك وقول المسيح عليه السلام وقد دخل على مومسة يعظها (إنما يدخل الطبيب على المريض) يعنى بالطبيب العالم وبالمريض المذنب الجاهل وقول لقمان لابنه (بدل فراشك) يعنى زوجتك وقول أبي هريرة حين سمع قائلا يقول خرج الدجال فقال (كذبة كذبها الصباغون) يعنى الكذابين.

وأنه محتاج مع الرجز والشعر إلى اعتبار معانيه ليقوى بذلك على معاني أمثال المنام كقول الشاعر:

وداع دعاني للندى وزجاجة * تحسيتها لم يعن ماء ولا خمرا

يعنى بالداعي دعوة الغناء وبالزجاجة فم المرأة كقول الآخر:

ليس للنرجس عهد * إنما العهد للآس

وكقول الآخر:

أنت ورد وبقاء الورد * شهر لا شهور

وهواي الآس والآس * على الدهر صبور

فينسبه بذلك إلى قلة بقاء الورد والنرجس ودوام الآس وبقائه ويتأول ذلك بذلك في الرؤيا إذا جاء فيها.

وأنه محتاج إلى اشتقاق اللغة ومعاني الأسماء كالكفر أصله التغطية، والمغفرة أصلها الستر، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، والفسق الخروج والبروز ونحو ذلك.

وأنه محتاج إلى إصلاح حاله وطعامه وشرابه وإخلاصه في أعماله ليرث بذلك حسن التوسم في الناس عند التعبير.

وإن الرؤيا الصادقة قسمان: قسم مفسر ظاهر لا يحتاج إلى تعبير ولا تفسير. وقسم مكني مضمر تودع فيه الحكمة والانباء في جواهر مرئياته.

وما كان له طبع في الصيف وطبع في الشتاء عبر عنه في كل حين يرى فيه بطبع وقته وجوهره وعادته في ذلك الوقت كالشجر والثمر والبحر والنار والملابس والمساكن والحيات والعقارب.

وما كان له طبع بالليل وطبع بالنهار عبر عنه في رؤيا الليل بطبعه وفي رؤيا النهار بعادته كالشمس والقمر والكواكب والسرج والنور والظلمة والقنافذ والخفاش وأمثال ذلك.

ومن كانت له في الناس عادة لازمته من المرئيات في سائر الأزمان أو في وقت منها دون وقت ترك فيها عادته التي عوده ربه تعالى كالذي اعتاد إذا أكل اللحم في المنام أكله وإذا رأى الدراهم دخلت عليه استفاد مثلها في اليقظة وإذا رأى الأمطار رآها في اليقظة أو يكون عادته في ذلك وفي غيره على ضده وعلى خلاف ما في الأصول.

وكل ماله في الرؤيا وجهان وجه يدل على الخير ووجه يدل على الشر أعطى لرائيه من الصالحين أحسن وجهيه وأعطى لرائيه من الطالحين أقبحهما.

وإن كان ذلك المرئي ذا وجوه كثيرة متلونة متضادة متنافية مختلفة لم يصر إلى وجه منها دون سائرها إلا بزيادة شاهد وقيام دليل من ضمير الرائي في المنام أو من دليل المكان الذي رأى نفسه فيه.

وإن الرؤيا تأتي على ما مضى وخلا وفرط وانقضى فتذكر عنه بغفلة عن الشكر قد سلفت أو بمعصية فيه قد فرطت أو بتباعة منه قد بقيت أو بتوبة منه قد تأخرت وقد تأتي عما الانسان فيه وقد تأتي عن المستقبل فتخبر عما سيأتي من خير أو شر كالموت والمطر والغنى والفقر والعز والذل والشدة والرخاء.

وإن أقدار الناس قد تختلف في بعض التأويل حسب اختلافها في نقصانها في الجدود والحظوظ وإن تساووا في الرؤيا فلا يجب تعبير ذلك المرئي الذي يتفقون في رؤيته في المنام إلا واسع المعاني متصرف الوجوه كالرمانة ربما كانت للسلطان كورة يملكها أو مدينة يلي عليها يكون قشرها جدارها أو سورها وحبها أهلها وتكون للتاجر داره التي فيها أهله أو حمامه أو فندقه أو سفينته الموقرة بالناس والأموال في وسط الماء أو دكانه العامر بالناس أو كتابه المملوء بالغلمان أو كيسه الذي فيه دراهمه ودنانيره وقد تكون للعالم أو للعابد الناسك كتابه ومصحفه وقشرها أوراقه وحبها كتابه الذي به صلاحه وقد تكون للأعزب زوجة بمالها وجمالها أو جارية بخاتمها يلتذ بها حين افتضاضها وقد تكون للحامل ابنة محجوبة في مشيمتها ورحمها ودمها وربما كانت في مقادير الأموال بيت مال السلطان وبدرة للعمال وألف دينار لأهل اليسار ومائة دينار للتجار وعشرة للمتوسط ودرهما للفقير وخروبة للمسكين أو رغيف خبز أو مدا من الطعام أو رمانة كما رآها لأنها عقدة من العقد تحل في الاعتبار والنظر، والقياس في الأمثال المضروبة للناس على الأقدار والأجناس.

وما كان من الشجرة ذات السيقان والشعب المعروفة بالفريقين فأكرمها عرب. وما كان منها لا ساق لها كاليقطين ونحوه فهو من العجم. أو من لا حسب له كالمطروح والحميل واللقيط وبذلك يوصل إلى فوائد الزوائد وعوائدها.

وربما رأى الانسان الشيء فعاد تأويله إلى شقيقه وربيبه أو سميه أو نسيبه أو صديقه أو جاره أو شبيهه في فن من الفنون وإنما يشرك بين الناس في الرؤيا بوجهين من هذه الأسباب كمن يتفق معه في النسب الواحد كشقيقه لاشتراكه معه في الأبوة والنسب والبطن وكسميه وجاره ونظيره فلا تصح الشركة إلا بوجهين فصاعدا وليس تنقل الرؤيا أبدا برأسها عمن رؤيت له إلا أن لا تليق به معانيها ولا يمكن أن ينال مثله موجبها ولا أن ينزل به دليلها أو يكون شريكه فيها أحق بها منه بدليل يرى عليه وشاهد في اليقظة والنظر يزيد عليه كدلالة الموت لا تنقل عن صاحبها إلا أن يكون سليم الجسم في اليقظة وشريكه مريضا فيكون لمرضه أولى بها منه لدنوه من الموت واشتراكه معه في التأويل.

فلذلك يحتاج العابر إلى أن يكون كما وصفوا أديبا ذكيا فطنا نقيا تقيا عارفا بحالات الناس وشمائلهم وأقدارهم وهيئاتهم يراعى ما تتبدل مرائيه وتتغير فيه عبارته عند الشتاء إذا ارتحل ومع الصيف إذا دخل عارفا بالأزمنة وأمطارها ونفعها ومضارها وبأوقات ركوب البحار وأوقات ارتجاجها وعادة البلدان وأهلها وخواصها وما يناسب كل بلدة منها وما يجيء من ناحيتها كقول القتبي في الجاورس ربما دل على قدوم غائب من اليمن لان شطر اسمه جا والورس لا يكون إلا من اليمن.

عارفا بتفصيل المنامات الخاصية من العامية فيما يراه الانسان من المرئيات التي تجتمع العالم والخلق في نفعها كالسماء والشمس والقمر والكواكب والمطر والريح والجوامع والرحاب.

فما رآه في منامه من هذه الأشياء خاليا فيه مستبدا به أو رآه في بيته فهو له في خاصيته، وقد قالت القدماء: من غلبت عليه السوداء رأى الأجداث والسواد والأهوال والافزاع وإن غلبت عليه الصفراء رأى النار والمصابيح والدم والمعصفر وإن غلب عليه البلغم رأى البياض والمياه والأنداء والأمواج وإن غلب عليه الدم رأى الشراب والرياحين والعزف والصفق والمزامير.

وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الرؤيا ثلاثة فرؤيا بشرى من الله تعالى ورؤيا من الشيطان ورؤيا يحدث بها الإنسان نفسه فيراها) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ذهبت النبوة وبقيت المبشرات) وقد قال بعض المفسرين في قوله عز وجل {لهم البشرى في الحياة الدنيا} قال هي الرؤيا الصالحة وقيل إن العبد إذا نام وهو ساجد يقول ربنا عز وجل (انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في طاعتي) وروي عن أبي الدرداء قال: إذا نام وهو ساجد يقول ربنا عز وجل (انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في طاعتي) وروي عن أبي الدرداء قال (إذا نام الرجل عرج بروحه إلى السماء حتى يؤتى بها العرش فإن كان طاهرا أذن لها بالسجود وإن كان جنبا لم يؤذن لها في السجود).

وقد اختلف الناس في النفس والروح فقال بعضهم هما شيء واحد مسمى باسمين كما يقال الإنسان ورجل وهما الدم أو متصلان بالدم يبطلان بذهابه والدليل على ذلك أن الميت لا يفقد من جسمه إلا دمه واحتجوا لذلك أيضا من اللغة بقول العرب نفست المرأة إذا حاضت ونفست من النفس وبقولهم للمرأة عند ولادتها نفساء لسيلان النفس وهو الدم وربما لم يزل جاريا على ألسنة الناس من قولهم سالت نفسه إذا مات قال أوس بن حجر:

نبئت أن بنى سحيم أدخلوا * أبياتهم تأمور نفس المنذر

والتأمور الدم أراد قتلوه فأضاف الدم إلى النفس لاتصالها به. وقال آخرون هما شيئان فالروح باردة والنفس حارة ولهذا النفخ يكون من الروح ولذلك تراه باردا بخلاف النفس من النفس فإنه سخين وسمت العرب النفخ روحا لأنه من الروح يكون على مذهبهم في تسمية الشيء بما كان متصلا به وسببا له فيقولون للنبات ندى لأنه بالندى يكون ويقولون للمطر سماء لأنه من السماء ينزل قال ذو الرمة لقادح نار:

فقلت له: ارفعها إليك وأحيها * بروحك واجعلها لها قنية قدرا

يريد: أحيها بنفخك

وأنشد بعض البغداديين:

وغلام أرسلته أمه * بإشاحين وعقد من ملح

تبتغى الروح فأسعفنا بها * وشفاء ماء عين في قدح

وهذه امرأة استرقت لولدها فابتغت الروح أي في نفخ الراقي إذا نفث في ماء من ماء العيون وأخذوا النفس من النفس وقالوا للنفس نسمة يقال على فلان عتق نسمة أي عتق نفس والله عز وجل يقول {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الروح روح الحياة في هذه المواضع وذهب بعض المفسرين إلى أنه ملك من الملائكة يقوم صفا وتقوم الملائكة صفا فإن كان الأمر على ما ذكر الأولون فكيف يتعاطى علم شي استأثر الله عز وجل به ولم يطلع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد امتحن بالسؤال عنه ليكون له شاهدا ولنبوته علما.

قال ابن قتيبة لما كانت الرؤيا على ما أعلمتك من خلاف مذاهبها وانصرافها عن أصولها بالزيادة الداخلة والكلمة المعترضة وانتقالها عن سبيل الخير إلى سبيل الشر باختلاف الهيئات واختلاف الزمان والأوقات وأن تأويلها قد يكون مرة من لفظ الاسم ومرة من معناه ومرة من ضده ومرة من كتاب الله تعالى ومرة من الحديث ومرة من المثل السائر والبيت المشهور احتجت أن أذكر قبل ذكر الأصول أمثلة في التأويل لأرشدك بها إلى السبيل:

فأما التأويل بالأسماء فتحمله على ظاهر اللفظ كرجل يسمى الفضل تتأوله إفضالا ورجل يسمى راشدا تتأوله إرشادا ورشدا أو سالما تتأوله السلامة وأشباه هذا كثيرة وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع فأتينا برطب بن طاب فأولت أن الرفعة لنا في الدنيا والآخرة وأن ديننا قد طاب) فأخذ من رافع الرفعة وأخذ طيب الدين من رطب بن طاب.

وحكي عن شريك بن أبي شمر قال رأيت أسناني في النوم وقعت فسألت عنها سعيد بن المسيب فقال أوساءك ذلك إن صدقت رؤياك لم يبق من أسنانك أحد إلا مات قبلك فعبرها سعيد باللفظ لا بالأصل لان الأصل في الأسنان أنها القرابة.

وحكي عن بشر بن أبي العالية قال: سألت محمدا عن رجل رأى كأن فمه سقط كله فقال هذا رجل قطع قرابته فعبرها محمد بالأصل لا باللفظ.

وحكي عن الأصمعي قال اشترى رجل أرضا فرأى أن ابن أخيه يمشي فيها فلا يطأ إلا على رأس حية فقال إن صدقت رؤياه لم يغرس فيها شئ إلا حيي.

قال وربما اعتبر الاسم إذا كثرت حروفه بالبعض على مذهب القائف والزاجر مثل السفرجل إذا رآه ولم يكن في الرؤيا ما يدل على أنه مرض تؤوله سفرا لان شطره سفر وكذلك السوسن إن عدل به عما ينسب إليه في التأويل وحمل على ظاهر اسمه تأول فيه السوء لان شطره سوء. قال الشاعر:

وسوسنة أعطيتنيها فما * كنت باعطائي لها محسنه

أولها سوء فان جئت بالآخر منها فهو سوء سنه.

وأما التفسير بالمعنى فأكثر التأويل عليه، كالأترج إن لم يكن مالا وولدا عبر بالنفاق لمخالفة ظاهره باطنه. قال الشاعر:

أهدى له أحبابه أترجة * فبكى وأشفق من عيافة زاجر

متعجبا لما أتته وطعمها * لونان باطنها خلاف الظاهر

وأما التأويل بالمثل السائر واللفظ المبتذل فكقولهم في الصائغ إنه رجل كذوب لما جرى على ألسنة الناس من قولهم فلان يصوغ الأحاديث، وكقولهم فيمن يرى أن في يديه طولا إنه يصطنع المعروف لما جرى على ألسنة الناس من قولهم هو أطول يدا منك وأمد باعا: أي أكثر عطاء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه رضي الله عنهن (أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا) فكانت زينب بنت جحش أول أزواجه موتا وكانت تعين المجاهدين وترفدهم، وكقولهم في المرض إنه نفاق لما جرى على ألسنة الناس لمن لا يصح لك وعده هو مريض في القول والوعد. وقال الله عز وجل (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) أي نفاقا. وكقولهم في المخاط إنه ولد لما جرى على ألسنة الناس من قولهم لمن أشبه أباه هو مخطته والهر مخطة الأسد. وأصل هذا أن الأسد كان حمله نوح عليه السلام في السفينة فلما آذاهم الفأر دعا الله تعالى نوح فاستنثر الأسد فخرجت الهرة بنثرته وجاءت أشبه شئ به. وكقولهم فيمن رمى الناس بالسهام أو البندق أو حذفهم أو قذفهم بالحجارة إنه يذكرهم ويغتابهم لما جرى على ألسنة الناس من قولهم رميت فلانا بالفاحشة. وقال تعالى (والذين يرمون المحصنات)، (والذين يرمون أزواجهم) وكقولهم فيمن قطعت أعضاؤه إنه يسافر ويفارق عشيرته أو ولده في البلاد لما جرى على ألسنة الناس من قولهم تقطعوا في البلاد والله عز وجل يقول في قوم سبأ (ومزقناهم كل ممزق) وقال (وقطعناهم في الأرض أمما) وكقولهم في الجراد إنها في بعض الأحوال غوغاء الناس لأن الغوغاء عند العرب الجراد، وكقولهم فيمن غسل يديه بالأشنان إنه اليأس من شئ يطلبه لقول الناس لن ييأس منه قد غسلت يدي منك بأشنان قال الشاعر:

واغسل يديك بأشنان وأنقهما * غسل الجنابة من معروف عثمان

وكقولهم في الكبش إنه رجل عزيز منيع لقول الناس هذا كبش القوم وكقولهم في الصقر إنه رجل له شجاعة وشوكة لقول الناس هو صقر من الرجال، قال أبو طالب:

تتابع فيها كل صقر كأنه * إذا ما مشى في رفرف الدرع أجرد

وأما التأويل بالضد والمقلوب، فكقولهم في البكاء إنه فرح وفي الضحك إنه حزن، وكقولهم في الرجلين يصطرعان والشمس والقمر يقتتلان إذا كانا من جنس واحد إن المصروع هو الغالب والصارع هو المغلوب وفي الحجامة إنها صك وشرط وفي الصك إنه حجامة وقولهم في الطاعون إنه حرب وفي الحرب إنه طاعون وفي السيل إنه عدو وفي العدو إنه سيل وفي أكل التين إنه ندامة وفي الندامة إنه أكل تين وفيمن يرى أنه مات ولم يكن لموته هيئة الموت من بكاء أو حفر قبر أو إحضار كفن أنه ينهدم بعض داره وقولهم في الجراد إنه جند وفي الجند إنه جراد.

وأما تعبير الرؤيا بالزيادة والنقصان فكقولهم في البكاء إنه فرح فإن كان معه رنة كان مصيبة وفي الضحك إنه حزن فإن كان تبسما كان صالحا وقولهم في الجوز إنه مال مكنوز فإن كان معه قعقعة فإنه خصومة وفى الدهن إذا أخذ منه بقدر فإنه زينة فان سال على الوجه فان غم وإن كثر على الرأس كان مداهنة للرئيس وفي الزعفران إنه ثناء حسن فان ظهر له لون في ثوب أو جسد فهو مرض أو هم وفي الضرب إنه كسوة فان ضرب وهو مكتوف فهو ثناء سوء يثنى عليه لا يمكنه رفعه ولمن يرى أن له ريشا فهو له رياش وخير فان طار بجناحه سافر سفرا في سلطان بقدر ما علا على الأرض وفيمن يرى أن يده قطعت وهي معه قد أحرزها أنه يستفيد أخا أو ولدا فان رأى أنها فارقته وسقطت فإنها مصيبة له في أخ أو ولد وفي المريض أنه يرى أنه صحيح يخرج من منزله ولا يتكلم فإنه يموت فان تكلم فإنه يبرأ وفي الفأر إنها نساء ما لم تختلف ألوانها فان اختلفت فكان فيها الأبيض والأسود فهي الليالي والأيام وفي السمك إذا عرف الانسان عدده فأنه نساء فإذا كثر عدده فهو مال وغنيمة.

وقد تعبر الرؤيا بالوقت كقولهم في راكب الفيل إنه ينال أمرا جسيما قليل المنفعة فان رأى ذلك في نور النهار طلق امرأته أو أصابه بسببها سوء وفي الرخمة أنها انسان أحمق قذر.

وأصدق الرؤيا بالأسحار وبالقائلة. وأصدق الأوقات وقت انعقاد الأنوار ووقت ينع الثمر وإدراكه. وأضعفها الشتاء ورؤيا النهار أقوى من رؤيا الليل.

وقد تتغير الرؤيا عن أصلها باختلاف هيئات الناس وصناعاتهم وأقدارهم وأديانهم فتكون لواحد رحمة وعلى آخر عذابا.

ومن عجيب أمر الرؤيا أن الرجل يرى في المنام أن نكبة نكبته وأن خيرا وصل إليه فتصيبه تلك النكبة بعينها ويناله ذلك الخير بعينه وفي الدراهم إذا رأوها أن يصيبوها وفي الولاية إذا رأوها أن يلوها وفي الحج إذا رأوه أن يحجوا وفي الغائب يقدم في المنام فيقدم في اليقظة وربما رأى الصبى الصغير الشيء فكان لأحد أبويه والعبد فكان لسيده والمرأة فكان لبعلها أو لأهل بيتها. وحكي: أن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه وجه قاضيا إلى الشام فسار ثم رجع من الطريق فقال له ما ردك؟ قال رأيت في المنام كأن الشمس والقمر يقتتلان وكأن الكواكب بعضها مع الشمس وبعضها مع القمر قال عمر مع أيهما كنت قال مع القمر قال انطلق لا تعمل لي عملا أبدا ثم قرأ (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) فلما كان يوم صفين قتل الرجل مع أهل الشام وبلغني أن الرجل هو جابر بن سعيد الطائي.

حدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كنت عند يزيد بن مزيد فقال إني رأيت رؤيا عجيبة ودعا بعابر فقال رأيت كأني أخذت طيطوى لأذبحه فأمررت السكين على حلقه ثلاث مرات فانقلبت ثم ذبحته في الرابعة فقال رأيت خيرا هذه بكر عالجتها فلم تقدر عليها ثلاث مرات ثم قدرت عليها في الرابعة، قال نعم وصغى إليه فقال في الرؤيا شيء قال ما هو؟ قال كانت هناك ضريطة من الجارية قال صدقت والله فكيف علمت؟ قال إن اسم الطائر طيطوى.

قال ابن قتيبة رضي الله عنه يجب عن العابر التثبت فيما يرد عليه وترك التعسف ولا يأنف من أن يقول لما يشكل عليه لا أعرفه وقد كان محمد بن سيرين إمام الناس في هذا الفن وكان ما يمسك عنه أكثر مما يفسر. وحدث الأصمعي عن أبي المقدام أو قرة بن خالد قال كنت أحضر ابن سيرين يسأل عن الرؤيا فكنت أحزره يعبر من كل أربعين واحدة.

قال ابن قتيبة: وتفهم كلام صاحب الرؤيا وتبينه ثم تعرضه على الأصول فان رأيته كلاما صحيحا يدل على معان مستقيمة يشبه بعضها بعضا عبرت الرؤيا بعد مسألتك الله تعالى أن يوفقك للصواب. وإن وجدت الرؤيا تحتمل معنيين متضادين نظرت أيهما أولى بألفاظها وأقرب من أصولها فحملتها عليه. وإن رأيت الأصول صحيحة وفي خلالها أمور لا تنتظم ألقيت حشوها وقصدت الصحيح منها. وإن رأيت الرؤيا كلها مختلطة لا تلتئم على الأصول علمت أنها من الأضغاث فأعرض عنها. وإن اشتبه عليك الأمر سألت الله تعالى كشفه ثم سألت الرجل عن ضميره في سفره إن رأى السفر وفي صيده إن رأى الصيد وفي كلامه إن رأى الكلام ثم قضيت بالضمير فان لم يكن هناك ضمير أخذت بالأشياء على ما بينت لك وقد تختلف طبائع الناس في الرؤيا ويجرون على عادة فيها فيعرفونها من أنفسهم فيكون ذلك أقوى من الأصل فينزل على عادة الرجل ويترك الأصل وقد تصرف الرؤيا عن أصلها من الشر بكلام الخير والبر وعن أصلها من الخير بكلام الرفث والشر.

فان كانت الرؤيا تدل على فاحشة وقبيح سترت ذلك ووريت عنه بأحسن ما تقدر على ذلك من اللفظ وأسررته إلى صاحبها كما فعل ابن سيرين حين سئل عن الرجل الذي يفقأ بيضا من رؤوسه فيأخذ بياضه ويدع صفرته فإنك لست من الرؤيا على يقين وإنما هو حدس وترجيح الظنون فإذا أنت بدهت السائل بقبيح ألحقت به شائبة لعلها لم تكن ولعلها إن كانت منه أن يرعوي ولا يعود.

واعلم أن أصل الرؤيا جنس وصنف وطبع، فالجنس كالشجر والسباع والطير وهذا كله الأغلب عليه أنه رجال، والصنف أن يعلم صنف تلك الشجرة من الشجر وذلك السبع من السباع وذلك الطائر من الطيور فان كانت الشجرة نخلة كان ذلك الرجل من العرب لان منابت أكثر النخل بلاد العرب وإن كان الطائر طاووسا كان رجلا من العجم وإن كان ظليما كان بدويا من العرب، والطبع أن تنظر ما طبع تلك الشجرة فتقضى على الرجل بطبعها فان كانت الشجرة جوزا قضيت على الرجل بطبعها بالعسر في المعاملة والخصومة عند المناظرة وإن كانت نخلة قضيت عليها بأنها رجل نفاع بالخير مخصب سهل حيث يقول لله عز وجل (كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) يعنى النخلة. وإن كان طائرا علمت أنه رجل ذو أسفار كحال الطير ثم نظرت ما طبعه فإن كان طاووسا كان رجلا أعجميا ذا جمال ومال وكذلك إن كان نسرا كان ملكا وإن كان غرابا كان رجلا فاسقا غادرا كذابا لقول النبي صلى الله عليه وسلم ولأن نوحا عليه السلام بعث به ليعرف حال الماء أنضب أم لا فوجد جيفة طافية على الماء فوقع عليها ولم يرجع فضرب به المثل وقيل لمن أبطأ عليك أو ذهب فلم يعد إليك غراب نوح وإن كان عقعقا كان رجلا لا عهد له ولا حفظ ولا دين قال الشاعر:

ألا إنما حملتم الامر عقعقا * له نحو علياء البلاد حنين

وإن كان عقابا كان سلطانا محاربا ظالما عاصيا مهيبا كحال العقاب ومخاليبه وجثته وقوته على الطير وتمزيقه لحومها.

وينبغي لصاحب الرؤيا أن يتحرى الصدق ولا يدخل في الرؤيا ما لم ير فيها فيفسد رؤياه ويغش نفسه ويجعل عند الله تعالى من الآثمين.

وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لا رؤيا للخائف إلا ما يحب يعنى في تأويلها يفرج أمره وذهاب خوفه.

ومن الناس من يرى أنه أصاب وسقا من التمر فيصيب من المال مائة درهم وآخر قد يرى مثله فيصيب ألف درهم وآخر يرى مثله فهو له حلاوة دينه وصلاحه فيه وذلك من همة الرجال وأقدارها وإيثارها أمر دينها ومنهم من يرى أنه أصاب من النبق عشرا فيصيب من الورق عشرة دراهم وآخر يرى مثله فيصيب ألف درهم وذلك من مجرى قدرهما وطبيعتهما.

وأصدق الرؤيا رؤيا ملك أو مملوك.

وربما لم توافق طبيعة الانسان في منامه موضعا معلوما يعرفه بعينه أو محلة أو دارا أو رجلا أو امرأة جميلة أو قبيحة أو معروفة أو مجهولة أو طائرا أو دابة أو علما أو صوتا أو طعاما أو شرابا أو سلاحا أو نحوه فهو به مولع كلما رآه في منامه أصابه هم أو خوف أو بكاء أو مصيبة أو شخوص أو غير ذلك مما يكره وهو فيما سواه من الرؤيا بمنزلة غيره من الناس في تأويلها وأمثالها وربما وافقت طبيعة الانسان في منامه بعض ما وصفت من ذلك فهو به مولع كلما رآه في منامه أصاب خيرا أو مالا أو ظفرا أو غير ذلك مما يحب وهو فيما سواه من الرؤيا بمنزلة غيره من الناس في تأويلها.

وقد يكون الإنسان صدوقا في حديثه فتصدق رؤياه، ويكون كذابا في حديثه ويحب الكذب فتكذب عامة رؤياه، ويكون كذابا ويكره الكذب من غيره فتصدق رؤياه لذلك.

ورؤيا الليل أقوى من رؤيا النهار وأصدق ساعات الرؤيا بالأسحار.

وإذا كانت الرؤيا قليلة جامعة ليس فيها حشو الكلام وكثرته فهي أنفذ وأسرع وقوعا.

وإياك إياك أن تحرف مسألة عن وجه تأويلها المعروف في الأصول أو تجاوز بها حدها المعلوم رغبة منك أو رهبة فيحق عليك بالكذب ويعمى عليك سبيل الحق فيه بل يسعك السكوت إن كرهت الكلام به.

وإذا رأيت في منامك ما تكرهه فاقرأ إذا انتبهت من نومك آية الكرسي ثم اتفل عن يسارك وقل أعوذ برب موسى وعيسى وإبراهيم الذي وفى ومحمد المصطفى من شر الرؤيا التي رأيتها أن لا تضرني في ديني ودنياي ومعيشتي عز جاره وجل ثناؤه ولا إله غيره.

واعرف الأزمنة في الدهر فإذا كانت الشجرة عند حملها ثمارها فان الرؤيا في ذلك الوقت مرجوة قوية فيها بطء قليل وإذا كانت الرؤيا عند إدراك ثمر الشجرة ومنافعها واجتماع أمرها فان الرؤيا عند ذلك أبلغ وأنفذ وأصح وأوفق وإذا أورقت الشجرة ولم يطلع ثمارها فان الرؤيا عند ذلك دون ما وصفت في القوة والبقاء دون الغاية وإذا سقط ورقها وذهب ثمرها فان الرؤيا عند ذلك أضعف والأضغاث والأحلام فيها عند ذلك أكثر.

وإذا وردت عليك من صاحب الرؤيا تأويل رؤياه عورة قد سترها الله عليه فلا تجبه منها بما يكره أن يطلع عليه مخلوق غيره إن كان مبتلى لا حيلة له ولكن عرض له حتى يعلمها إلا أن يكون له من ذلك مخرج أو يكون مصرا على معصية الله أو قد هم بها فعظه عند ذلك واستر عليه كما أمر الله تعالى. واستر ما يرد عليك من الرؤيا في التأويل من أسرار المسلمين وعوراتهم ولا تخبر بها إلا صاحبها ولا تنطق بها عند غيره ولا تحكها عنه ولا تسمه فيها إن ذكرتها ولا تحك عن أحد مسألة رؤيا إن كان فيها عورة يكرهها فإنك إن فعلت ذلك اغتبت صاحبها.

ولا تصدرن رأيك في مسألة حتى تفتشها وتعرف وجهها ومخرجها وقدرها واختلاف الطبائع التي وصفت لك فإنك عند ذلك تبصر ما عمل الشيطان في تخليطها وفسادها عليك وإدخال الشبهات والحشو فيها فان أنت صفيتها من هذه الآفات التي وصفت لك ووجدت ما يحصل من كلام التأويل صحيحا مستقيما موافقا للحكمة فذلك تأويلها صحيح وقد بلغني أن ابن سيرين كان يفعل كذلك وإذا وردت عليه رؤيا مكث فيها مليا من النهار يسأل صاحبها عن حاله ونفسه وصناعته وعن قومه ومعيشته وعن المعروف عنده من جميع ما يسأل عنه والمجهول منه ولا يدع شيئا يستدل به ويستشهد به على المسألة إلا طلب علمه.

واعلم أن نفاذك في علم الرؤيا بثلاثة أصناف من العلم لابد لك منها: أولها حفظ الأصول ووجوهها واختلافها وقوتها وضعفها في الخير أو في الشر لتعرف وزن كلام التأويل ووزن الأصول في الخفة والرجحان والوثائق فيما يرد عليك من المسائل فإن تكن مسألة يدل بعضها على الشر وبعضها على الخير زن الامرين والأصلين في نفسك وزنا على قوة كل أصل منهما في أصول التأويل ثم خذ بأرجحهما وأقواهما في تلك الأصول. والثاني تأليف الأصول بعضها إلى بعض حتى يخلصها كلاما صحيحا على جوهر أصول التأويل وقوتها وضعفها وتطرح عنها من الأضغاث والتمني وأحزان الشيطان وغيرها مما وصفت لك أو يستقر عندك أنها ليست رؤيا ولا يلتئم تأويلها فلا تقبلها. والثالث شدة فحصك وتثبتك في المسألة حتى تعرفها حق معرفتها وتستدل من سوى الأصول بكلام صاحب الرؤيا ومخارجه ومواضعه على تلخيصها وتحقيقها وذلك من أشد علم تأويل الرؤيا كما يزعمون وفي ذلك ما يكون من العلم بالأصول وبذلك يستخرج ويتوصل العابر وإلا فالاقتداء بالماضين من الأنبياء والرسل والحكماء في ذلك أقرب إلى الصواب إن شاء الله فافهم. وإن أردت أن تفهم وزن كلام الرؤيا في رجحان وزنه وخفته فاستدل بمسألة بلغني فيها عن ابن سيرين أن امرأة سألته أنها رأت في منامها رجلا مقيدا مغلولا فقال لها لا يكون هذا لان القيد ثبات في الدين وإيمان والغل خيانة وكفر فلا يكون المؤمن كافرا قالت المرأة قد والله رأيت هذه الرؤيا بحال حسنة وكأني أنظر إلى الغل في عنقه في ساجور فلما سمع بذكر الساجور قال لها نعم قد عرفت الآن لأن الساجور من خشب والخشب في المنام نفاق في الدين كما قال في المنافقين (كأنهم خشب مسندة) فصار الساجور والغل جميعا وكل واحد منهما تأويله نفاق وخيانة وكفر وهما في أمثال التأويل أقوى من القيد وحده وليس معه شاهد يقويه فهذا رجل يدعى إلى غير أبيه وإلى غير قومه ويدعى إلى العرب وليس منهم قالت المرأة إنا لله وإنا إليه راجعون. وهكذا كل مسألة من الرؤيا معها شاهد أو شاهدان تدل على تحقيق التأويل كما قال الله تعالى يحكي رؤيا فرعون يوسف (إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف) إلى آخر الآية فالبقرات السمان هي السنون الخصبة والعجاف هي السنون الجدبة وقال وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات وهي السنون المسماة في تأويل البقرات ولكنها صارت شاهدات لتحقيق هذه السنين في البقرات كما صار الساجور شاهدا للغل بتحقيق الخيانة والكفر.

وليس نوع من العلم مما ينسب إلى الحكمة إلا يحتاج إليه في تأويل الرؤيا حتى الحساب وحتى الفرائض والاحكام والعربية وغرابتها لمعاني الأسماء وغيرها وما فيها من أمثال الحكمة وشرائع الدين والمناسك والحلال والحرام والصلاة والوضوء وغير ذلك من العلم والاختلاف فيه يقاس عليه ويؤخذ منه فيه فليكن ما في يدك من الأصول المفسرة لك أوفق عندك مما يأتيك به صاحب الرؤيا ليزيلك عنها وإن كان ثقة صدوقا عندك.

واعلم أنه لم يتغير من أصول الرؤيا القديمة شيء ولكن تغيرت حالات الناس في هممهم وآدابهم وإيثارهم أمر دنياهم على أمر آخرتهم، فلذلك صار الأصل الذي كان تأويله همة الرجل وبغيته وكانت تلك الهمة دينه خاصة دون دنياه فتحولت تلك الهمة عن دينه وإيثاره إياه فصارت في دنياه وفي متاعها وغضارتها وهي أقوى الهمتين عند الناس اليوم إلا أهل الدين والزهد في الدنيا وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون التمر فيتأولونه حلاوة دينهم ويرون العسل فيتأولونه قراءة القرآن والعلم والبر وحلاوة ذلك في قلوبهم فصارت تلك الحلاوة اليوم والهمة في عامة الناس في دنياهم وغضارتها إلا القليل ممن وصفت.

وقد يرى الكافر الرؤيا الصادقة حجة لله عليه. ألا ترى فرعون يوسف رأى سبع بقرات كما أخبر الله تعالى في كتابه فصدقت رؤياه. ورأى بختنصر زوال ملكه وعظيم ما يبتلى به فصدقت رؤياه على ما عبرها له دانيال الحكيم. ورأى كسرى زوال ملكه فصدقت رؤياه، فاعرف هذا المجرى في التأويل واعتبر عليه ترشد إن شاء الله تعالى.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي جعل الليل لباسا، والنوم سباتا، والنهار نشورا، والحمد لله الأبدي السابق القوي الخالق الوفي الصادق الذي لا يبلغ كنه مدحه الناطق، ولا يعزب عنه ما تجن الغواسق، فهو حي لا يموت، ودائم لا يفوت، وملك لا يبور، وعدل لا يجور، عالم الغيوب، وغافر الذنوب، وكاشف الكروب وساتر العيوب، دانت الأرباب لعظمته، وخضعت الصعاب لقوته، وتواضعت الصلاب لهيبته، وانقادت الملوك لملكه، فالخلائق له خاشعون ولأمره خاضعون وإليه راجعون، تعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش العظيم الكريم، انتخب محمدا من خلقه واصطفاه من بريته، واختاره لنبوته، وأيده بحكمته، وسدده بعصمته، أرسله بالحق بشيرا برحمته ونذيرا بعقوبته، مباركا على أهل دعوته، فبلغ ما أرسل به ونصح لأمته وجاهد في ذات ربه، وكان كما وصفه ربه عز وجل رحيما بالمؤمنين عزيزا على الكافرين، صلوات الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.

قال الأستاذ أبو سعد الواعظ رضي الله عنه: أما بعد فإنه لما كانت الرؤيا الصحيحة في الأصل منبئة عن حقائق الاعمال منبهة على عواقب الأمور، إذ منها الآمرات والزاجرات، ومنها المبشرات والمنذرات، وكيف لا تكون كذلك وهي من بقايا النبوة وأجزائها بل هي أحد قسمي النبوة، فان من الأنبياء صلوات الله عليهم من كان وحيه الرؤيا فهو نبي، ومن كان وحيه على لسان الملك وهو في اليقظة فهو رسول فقط، وهذا هو الفرق بين الرسول والنبي. وقد أخبرنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الرفاء، قال أخبرنا محمد بن المغيرة، قال حدثنا مكي بن إبراهيم، قال حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا اقترب الزمان تكدرت رؤيا المسلم، أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، والرؤيا ثلاثة الرؤيا الصالحة بشرى من الله عز وجل ورؤيا المسلم التي يحدث بها نفسه ورؤيا تحزين من الشيطان فإذا رأى أحدكم ما يكره فلا يحدث به وليقم فليصل) وقال (أحب القيد وأكره الغل القيد ثبات في الدين) وأخبرنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن محمد بن مطر. قال حدثنا حامد بن محمد بن شعيب قال حدثنا يحيى بن أيوب قال حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضوان الله عليها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يبقى بعدي من النبوة إلا المبشرات قالوا يا رسول الله وما المبشرات؟ قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل لنفسه وترى له) أخبرنا أبو عبد الله المهلبي قال حدثنا محمد بن يعقوب بن يوسف قال حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد قال أخبرنا عقبة ابن علقمة المعافري قال أخبرني الأوزاعي قال حدثنا يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال حدثني عبادة بن الصامت قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد غيرك هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له). وأخبرنا أبو سهل بشر بن أحمد بن بشر الفقيه قال حدثنا جعفر بن محمد الفريابي قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا صدقة بن خالد قال حدثني ابن جابر قال حدثني عطاء الخراساني قال حدثني ثابت بن قيس بن شماس قال لما أنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) الآية دخل ثابت بن قيس بيته وأغلق عليه بابه وطفق يبكي ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فقال إني رجل شديد الصوت أخاف أن يكون قد حبط عملي قال لست منهم تعيش بخير وتموت بخير قال ثم أنزل الله تعالى (إن الله لا يحب كل مختال فخور) فأغلق عليه بابه وطفق يبكي ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فأخبره فقال إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي قال لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا ويدخلك الله الجنة قال فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب فلما التقوا انكشفوا فقال ثابت وسالم مولى أبى حذيفة ما هكذا كنا نقاتل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حفر كل واحد منهما حفرة فأتيا فقاتلا حتى قتلا وعلى ثابت يومئذ درع نفيسة فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينما رجل من المسلمين نائم إذ أتاه قيس بن ثابت فقال إني أوصيك بوصية إياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين ومنزله في أقصى الناس وعند خبائه فرس يستن في طوله وقد ألقى على الدرع برمة وفوق البرمة رحل فأت خالد بن الوليد فمره فليبعث إلى درعي فيأخذها فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن علي من الدّين كذا وكذا وفلان وفلان من رقيقي عتيق فأتى الرجل خالد بن الوليد فأخبره فبعث إلى الدرع فأتى بها وحدث أبا بكر رضوان الله عليه برؤياه فأجاز وصيته ولم نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت بن قيس.

قال الأستاذ أبو سعيد رضي الله عنه : فهذه الأخبار التي رويناها تدل على أن الرؤيا في ذاتها حقيقة وأن لها حكما وأثرا وأول رؤيا رؤيت في الأرض رؤيا آدم عليه السلام وهي ما أخبرنا به محمد بن عبد الله بن حمدويه قال أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن إسحاق قال حدثنا محمد بن أحمد بن البراء قال حدثنا عبد المنعم ابن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى آدم عليه السلام إنك قد نظرت في خلقي فهل رأيت لك فيهم شبيها قال لا يا رب وقد كرمتني وفضلتني وعظمتني فاجعل لي زوجا تشبهني أسكن إليها حتى توحدك وتعبدك معي، فقال الله تعالى له نعم فألقى عليه النعاس فخلق منه حواء على صورته وأراه في منامه ذلك وهي أول رؤيا كانت في الأرض فانتبه وهي جالسة عند رأسه فقال له ربه يا آدم ما هذه الجالسة التي عند رأسك فقال له آدم الرؤيا التي أريتني في منامي يا إلهي.

ومما يدل على تحقيق الرؤيا في الأصل أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم رأى في المنام ذبح ابنه فلما استيقظ ائتمر لما أمر به في منامه قال الله عز وجل حكاية عنه (يا بني إني أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) فلما علم إبراهيم عليه السلام برؤياه وبذل جهده في ذلك إلى أن فرج الله عنه بلطفه علم به أن للرؤيا حكما.

ثم رؤيا يوسف عليه السلام وهي ما أخبرنا محمد بن عبد الله بن محمد قال أخبرنا الحسن بن محمد الأزهري قال حدثنا محمد بن أحمد بن البراء قال حدثنا عبد المنعم بن إدريس قال حدثني أبي عن وهب بن منبه أن يوسف بن يعقوب عليهما السلام رأى رؤيا وهو يومئذ صبي نائم في حجر أحد إخوته وبيد كل رجل منهم عصا غليظة يرعى بها ويتوكأ عليها ويقاتل بها السباع عن غنمه وليوسف عليه السلام قضيب خفيف دقيق صغير يتوكأ عليه ويقاتل به السباع عن غنمه ويلعب به وهو إذ ذاك صبي في الصبيان فلما استيقظ من نومه وهو في حجر أحد إخوته قال ألا أخبركم يا إخوتي برؤيا رأيتها في منامي هذا قالوا بلى فأخبرنا قال فإني رأيت قضيبي هذا غرز في الأرض ثم أتى بعصيكم كلها فغرزت حوله فإذا هو أصغرها وأقصرها، فلم يزل يترقى في السماء ويطولها حتى طال عصيكم فثبت قائما في الأرض وتفرشت عروقه من تحتها حتى انقلعت عصيكم فثبت قائما وسكنت حوله عصيكم فلما قص عليهم هذه الرؤيا قالوا يوشك ابن راحيل أن يقول لنا أنتم عبيدي وأنا سيدكم ثم لبث بعد هذا سبع سنين فرأى رؤيا فيها الكواكب والشمس والقمر، فقال لأبيه (يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) فعرف يعقوب تأويل الرؤيا وخشي عليه إخوته فالقمر أبوه والشمس أمه والكواكب إخوته فقال (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا) وذكر القصة إلى أن قال (ورفع أبويه على العرش) يعنى أجلسهما على السرير وآواهما إلى منزله وخر له أبواه وإخوته سجدا تعظيما له وكانت تحية الناس في ذلك الزمان السجود ولم تزل تحية الناس السجود حتى جاء الله تعالى بالاسلام فذهب بالسجود وجاء بالمصافحة، ثم إن يعقوب عليه السلام رأى في المنام قبل أن يصيب يوسف ما فعل إخوته وهو صغير كأن عشرة ذئاب أحاطت بيوسف ويعقوب على جبل ويوسف في السهل، فتعاورته بينهم فأشفق عليه وهو ينظر إليه من فوق الجبل، إذ انفرجت الأرض ليوسف فغار فيها وتفرقت عنه الذئاب، فذلك قوله لبنيه (إني أخاف أن يأكله الذئب).

ثم قصة موسى صلى الله عليه وسلم، وهي ما ذكر وهب أن فرعون حلم حلما فظع به وهاله، رأى كأن نارا خرجت من الشام، ثم أقبلت حتى انتهت إلى مصر، فلم تدع شيئا إلا أحرقته، وأحرقت بيوت مصر كلها ومدائنها وحصونها، فاستيقظ من نومه فزعا مرتاعا، فجمع لها ملا عظيما من قومه فقصها عليهم، فقالوا له لئن صدقت رؤياك ليخرجن من الشام رجل من ولد يعقوب يكون هلاك مصر وهلاك أهلها على يديه وهلاكك أيها الملك فعند ذلك أمر فرعون بذبح الصبيان حتى أظهر الله تعالى تأويل رؤياه ولم تغن عنه حيلته شيئا وربي موسى عليه السلام في حجره ثم أهلكه على يديه عزت قدرته وجلت عظمته.

ثم رؤيا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وهي ما أخبرنا أبو سهل بن أبي يحيى الفقيه قال حدثنا جعفر بن محمد الفريابي قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا صدقة قال حدثنا ابن جابر عن سليمان بن عامر الكلاعي قال حدثنا أبو أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (بينما أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأخرجاني وأتيا بي جبلا وعرا فقالا لي اصعد فقلت لا أطيقه قالا إننا سنسهله لك قال فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بصوت شديد فقلت ما هذه الأصوات فقالا هذه عواء أهل النار ثم انطلقا بي فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة تسيل أشداقهم دما فقلت من هؤلاء قال هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم فقلت خابت اليهود والنصارى) قال سليمان فلا أدري أشيء سمعه أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو شيء قاله برأيه قال (ثم انطلقا بي فإذا بقوم أشد منهم انتفاخا وأنتنهم ريحا كأن ريحهم المراحيض فقلت من هؤلاء فقال هؤلاء الزانون والزواني قال ثم انطلقا بي فإذا بغلمان يلعبون بين نهرين فقلت من هؤلاء قال هؤلاء ذراري المسلمين ثم شرفا بي شرفا فإذا بنفر ثلاثة يشربون من خمر لهم فقلت من هؤلاء قال هؤلاء زيد وجعفر وابن رواحة ثم شرفا بي شرفا بي آخر فإذا بنفر ثلاثة قلت من هؤلاء قال هؤلاء إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وهم ينتظرونك).

وأخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن إبراهيم قال حدثني علي بن محمد الوراق قال حدثنا أحمد بن محمد بن نصر قال أخبرنا يوسف بن بلال عن محمد بن مروان الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عند عائشة فاشتكى لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخوفنا عليه فبينما هو صلى الله عليه وسلم بين النائم واليقظان إذا ملكان أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال الذي عند رأسه للذي عند رجليه ما شكواه ليفهم عنهما صلى الله عليه وسلم قال طب قال من فعله به قال لبيد بن الأعصم اليهودي قال أين صنعه قال في بئر ذروان قال فما دواؤه قال يبعث إلى تلك البئر فينزح ماءها ثم ينتهى إلى صخرة فيقلعها فإذا فيها وتر في كربة عليها إحدى عشرة عقدة فيحرقها فيبرأ إن شاء الله أما إنه إن بعث إليها استخرجها قال فاستيقظ صلى الله عليه وسلم وقد فهم ما قيل له قال فبعث عمار بن ياسر ورهطا من أصحابه إلى تلك البئر وقد تغير ماؤها كأنه ماء الحناء قال فنزح ماءها ثم انتهى إلى الصخرة فاقتلعها فإذا تحتها كربة وفي الكربة وتر فيه إحدى عشرة عقدة فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هاتان السورتان (قل أعوذ برب الفلق)، (وقل أعوذ برب الناس) وهما إحدى عشرة آية فكلما قرأ آية انحلت عقدة فلما حل العقد قام النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما نشط من عقال قال وأحرق الوتر قال وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما وكان لبيد يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ذاكر النبي صلى الله عليه وسلم ولا رؤي في وجهه شيء. فهذه جملة دالة على تحقيق أمر الرؤيا وثبتها في أخبار كثيرة يطول الكتاب بذكرها.

قال الأستاذ أبو سعد رضي الله عنه: لما رأيت العلوم تتنوع أنواعا منها ما ينفع في الدنيا دون الدين ومنها ما ينفع فيهما جميعا وكان علم الرؤيا من العلوم النافعة دينا ودنيا استخرت الله تعالى في جمع صدر منه سالكا نهج الاختصار مستعينا بالله في إتمامه على ما هو أرضى لديه وأحب إليه ومستعيذا به من وباله وفتنته والله تعالى ولى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قال الأستاذ أبو سعد: يحتاج الانسان إلى إقامة آداب لتكون رؤياه أقرب إلى الصحة فمنها أن يتعود الصدق في أقواله لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا) ومنها أن يحافظ على استعمال الفطرة جهده، فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسأل أصحابه كل يوم (هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا) فيقصونها عليه فيعبرها لهم ثم سألهم أياما فلم يقص عليه أحد منهم رؤيا فقال لهم (كيف ترون وفي أظفاركم الرفغ) وذلك أن أظفارهم قد طالت وتقليمها من الفطرة. ومنها أن ينام على طهر، وقد روي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الفجر وأن لا أنام إلا على طهر، ومنها أن ينام على جنبه الأيمن فان النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شيء. وروي أنه كان ينام على جنبه الأيمن ويضع يده اليمنى تحت خده الأيمن ويقول: (اللهم قني عذابك يوم تجمع عبادك). وروى أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أخذت مضجعها قالت: اللهم إني أسألك رؤيا صالحة صادقة غير كاذبة نافعة غير ضارة حافظة غير ناسية. وفي بعض الأخبار أن من سنة النائم أن يقول إذا أوى إلى فراشه: اللهم إني أعوذ بك من الاحتلام وسوء الأحلام وأن يتلاعب بي الشيطان في اليقظة والمنام).

ثم الرؤيا على ضربين: حق وباطل، فأما الحق فما يراه الانسان مع اعتدال طبائعه واستقامة الهواء وذلك من حين تهتز الأشجار إلى أن يسقط ورقها، وأن لا ينام على فكرة وتمني شيء مما رآه في منامه ولا يخل بصحة الرؤيا جنابة ولا حيض. وأما الباطل منها فما تقدمه حديث نفس وهمة وتمن ولا تفسير لها، وكذلك الاحتلام الموجب للغسل جار مجراه في أنه ليس له تأويل، وكذلك رؤيا التخويف والتحزين من الشيطان. قال الله تعالى {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله}.

ثم إن من السنة خمس خصال يعملها الذي يرى في منامه ما يكره يتحول عن جنبه الذي نام عليه إلى الجنب الآخر ويتفل عن يساره ثلاثا ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ويقوم فيصلى ولا يحدث أحدا برؤياه. وقد روى أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال (يا رسول الله إنني أرى في المنام رؤيا تحزنني، فقال عليه الصلاة والسلام: وأنا أيضا أرى في المنام ما يحزنني فإذا رأيت ذلك فاتفل عن يسارك ثلاثا وقل اللهم إني أسألك خير هذه الرؤيا وأعوذ بك من شرها).

ومن ذلك أضغاث أحلام وهي أن يرى الانسان كأن السماء صارت سقفا ويخاف أن يقع عليه وأن الأرض رحى تدور أو نبت من السماء أشجار وطلع من الأرض نجوم أو تحول الشيطان ملكا والفيل نملة وما أشبه ذلك ولا تأويل لها. ومن ذلك رؤيا يراها الانسان عند تشويش طبائعه كالدموي يرى الحمرة والمرطوب يرى الرطوبة والصفراوي يرى الصفرة والسوداوي يرى الظلمات والسواد والمحرور يرى الشمس والنار والحمام والمبرود يرى البرودات والممتلئ يرى الأشياء الثقيلة على نفسه فهذا النوع من الرؤيا لا تأويل له أيضا.

ثم إن أصدق الرؤيا ما كانت في نوم النهار أو نوم آخر الليل، فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أصدق الرؤيا ما كان بالأسحار) وروى أنه قال (أصدق الرؤيا رؤيا النهار لأن الله تعالى أوحى إلي نهارا) وحكي عن جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام أنه قال: أصدق الرؤيا رؤيا القيلولة.

قال الأستاذ أبو سعد رضي الله عنه: ولصاحب الرؤيا آداب يحتاج إلى أن يتمسك بها وحدود ينبغي أن لا يتعداها وكذلك للمعبر، فأما آداب صاحب الرؤيا:

فأن لا يقصها على حاسد، وذلك أن يعقوب عليه السلام قال ليوسف لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا.

ولا يقصها على جاهل فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تقصص رؤياك إلا على حبيب أو لبيب).

وأن لا يكذب في رؤياه، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من كذب في الرؤيا كلف يوم القيامة عقد شعيرتين).

ولا يقصها إلا سرا كما رأى سرا.

ولا يقصها على صبي ولا امرأة.

والأولى أن يقص رؤياه في إقبال السنة وفي إقبال النهار دون إدبارهما.

وأما آداب المعبر:

فمنها أن يقول إذا قص عليه أخوه رؤياه خيرا رأيت فقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قصت عليه رؤيا يقول (خيرا تلقاه وشرا تتوقاه وخيرا لنا وشرا لأعدائنا الحمد لله رب العالمين أقصص رؤياك)

ومنها أن يعبرها على أحسن الوجوه فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الرؤيا تقع على ما عبرت) روى أنه قال (الرؤيا على رجل طائر ما لم يحدث بها فإذا حدث بها وقعت).

ومنها أن يحسن الاستماع إلى الرؤيا ثم يفهم السائل الجواب.

ومنها أن يتأنى في التعبير ولا يستعجل به.

ومنها أن يكتم عليه رؤياه فلا يفشيها فإنه أمانة.

ويتوقف في التعبير عند طلوع الشمس وعند الزوال وعند الغروب.

ومنها أن يميز بين أصحاب الرؤيا فلا يفسر رؤيا السلطان حسب رؤيا الرعية فان الرؤيا تختلف باختلاف أحوال صاحبها. والعبد إذا رأى في منامه ما لم يكن له أهلا فهو لمالكه لأنه ماله. وكذلك المرأة إذا رأت ما لم تكن له أهلا فهو لزوجها لأنها خلقت من ضلعه. وتأويل رؤيا الطفل لأبويه.

ومنها أن يتفكر في رؤيا تقص عليه فان كانت خيرا عبرها وبشر صاحبها قبل تعبيرها وإن كانت شرا أمسك عن تعبيرها أو غيرها على أحسن محتملاتها فإن كان بعضها خيرا وبعضها شرا عارض بينهما ثم أخذ بأرجحهما وأقواهما في الأصول فان أشكل عليه سأل القاص عن اسمه فعبرها على اسمه لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أشكل عليكم الرؤيا فخذوا بالأسماء) وبيانه أن اسم سهل سهولة وسالم سلامة وأحمد ومحمد محمدة ونصر نصرة وسعاد سعادة.

وأيضا يعبر في ذلك ما يستقبله في ذلك الوقت فان استقبلته عجوز فهي دنيا مدبرة وإن استقبله برذون أو بغل أو حمار فهو سفر لقوله تعالى (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) وإن سمع في ذلك الوقت نعيق الغراب واحدة أو ثلاثا أو أربعا أو ستا فهو خير فأما الأربع فيسقط منها واحدة فيبقى ثلاثة والست خير لا يسمعها إلا الأكابر وإن سمع اثنتين فلا يستحب. وحكي عن ابن عباس أنه قال إذا نعق الغراب ثلاثا فهو خير وبالفارسية ديك وإذا نعق الغراب اثنتين فهو شر وبالفارسية بد. ويكره أن يقص الرؤيا يوم الثلاثاء لأنه يوم إهراق الدماء ويوم الأربعاء لأنه يوم نحس مستمر ولا يكره سائر الأيام.

وفي هذا القدر الذي صدرنا به كتابنا هذا غنيمة لمن تدبره وتأمل معانيه إذ لو بسطناه لأدى إلى الابرام والملل وأرجو أن الله تعالى ينفعنا به ويعيذنا من علم لا ينفع وبطن لا يشبع ونفس لا تخشع ودعاء لا يسمع ومن طبع يهدى إلى طمع ومن طمع حيث لا مطمع إنه تعالى القادر على ما يشاء الفعال لما يريد وحسبي الله ونعم الوكيل.